الجانب المظلم للتكنولوجيا

الجانب المظلم للتكنولوجيا


مما لا شك فيه عند الناس أن التكنولوجيا الحديثة من اختراعاتٍ مختلفة أوجدها الإنسان لتيسر له أمور حياته و توفر له وقته وتساعده على مزيدٍ من الابتكار و الاختراع و الاكتشاف لدقائق الكون و الحياة، ولكن ماذا لو اكتشفنا أن الأمر ليس كما يظنه الناس بياضا نقيا لا سواد فيه و أن هناك جانبا مظلما لهذه التكنولوجيا يتسلل ليلاً ليسرق من عقولنا و أرواحنا ما يشاء دون أن ندري؟ و ما عزمت عليه في هذا المقال أن أُسلِّط مصباح المراقبة على هذا الجانب المُظلِم عسى أن يتفادى كل واحد منا الشرور و ينتفع بالخير.
1
و قد اخترت الإنترنت ليكون نموذج مقالنا لأنه أهم مظاهر التكنولوجيا و أكثرها انتشاراً و أكثرها تأثيراً في نفوس الناس.
مصطلح ” اضطراب إدمان الانترنت” (Internet Addiction disorder) و له اسمٌ آخر”إشكالية استخدام الانترنت” (Problematic use of Internet) و كلاهما يشير إلى الاستخدام الزائد عن الحد للانترنت في الحياة اليومية، و مما ينبغي الإشارة إليه هنا أن الفرق الأساسي بين الإدمان و العادة هو الصفة القهرية في حالة الإدمان و التي تؤدي إلى لا إرادية الفعل.
2
ففي المركز الطبي بجامعة ستانفورد قام خمسة من الباحثين بإجراء دراسة توصلوا فيها إلى أن واحدا من كل ثمانية أمريكيين يعانون من الاستعمال المرضي للانترنت، و نشرت الدراسة في سنة 2006.
و أفاد 20% من طلاب جامعة هارفارد أن الانترنت بات يعرقل تحصيلهم الدراسي و أنهم يسألون عن حلٍ لهذا الحالة.
و مما قد يفاجئك أن بعض الدول قامت بعمل مراكز طبية لعلاج الحالات المرضية و الإدمان للانترنت، ففي 2007 كان عدد مراكز العلاج في كوريا الجنوبية يصل إلى 140 مركزا!
و في دراسة على 100 طالب في جامعة من جامعات كوريا الجنوبية قرابة 50% من الطلاب يستخدم هاتفه أكثر من 5 ساعات في اليوم و 68% صنفوا أنفسهم أنهم مدمنون لهواتفهم، و 70% من طلاب الإحصائية كانوا يشعرون بالقلق إذا أوشكت بطاريات الهواتف على النفاد، و أن 77% تسبب لهم هواتفهم التشتيت و عدم التركيز عند المذاكرة أو العمل !
و هذا الإدمان له أنواع منه إدمان مشاهدة الفيديوهات على اليوتيوب، إدمان الألعاب الأونلاين، إدمان وسائل التواصل الاجتماعي و هذا سنتكلم عنه بالتفصيل، إدمان الإباحيات، …إلخ.
و هو أيضا له مظاهر منها:
  1. قلة النوم للجلوس على الانترنت بلا شىء مفيد.
  2. تضييع الواجبات الوظيفية أو الطلابية للانشغال بالانترنت.
  3. قد يصل الأمر لترك دخول الحمام لفترات طويلة بسبب جلسة الانترنت.
  4. الصفة القهرية الخفية لدخولك على الانترنت دون أن تشعر، فتجد الرجل يستيقظ من النوم و قبل فعل أي شىء يمسك جهازه ليتصفح مواقع التواصل و تجد الطالب يجلس ليذاكر واجباته ثم تتسلل يده إلى هاتفه دون أن يشعر ليتفاعل أيضا على مواقع التواصل و هناك من تجالسه فيكون كثير النظر للهاتفينتظر اللحظة المناسبة لينطلق إلى مواقع التواصل و ما على شاكلة هذا كثير و لكن أكثر الناس لا ينتبهون.
  5. الأعراض الانسحابية (withdrawal symptoms) و هي تظهر كأعراض للانقطاع عن ما أدمن عليه المرء و هي التوتر و القلق و الغضب و الانزعاع و هذا يظهر فيمن عزم على ترك ما اعتاد عليه و صار عنده قهريا من حيث يدري أو لا يدري، و أعلم مَن كان يُكثِر من الدخول على الفيس بوك أيام الدراسة –سنذكر السبب النفسي لذلك لاحقا-، فإذا جاءت الإجازة أراد الانقطاع ليقضي وقته فيما يراه مفيدا بحرية و لكنه يجد في أول أيامه لوعة هذا الإدمان.
  6. عدم الشعور بالوقت (Time terminal wrap) في الحقيقة هذا ليس من مظاهر الإدمان و لكنه من مظاهر استخدام الإنترنت بشكل عام، فإن من يجلس عليه كأنه دخل الثقب الأسود لينتقل عبر الزمن، فهو ينوي في البداية أن يجلس نصف ساعة و لكنه لا يفيق إلا و قد مرت ساعة أو ساعتان دون أن يشعر و ذلك لطبيعة الانترنت في طرق البحث عليه التي تجعلك تنتقل من موقع لآخر و لا تمل أبدا.
  7. إدمان البيانات (Dataholics) و هذا يحدث للباحثين أكثر من غيرهم، فإن الانترنت يوفر كمّا كبيرا من المصادر العلمية التي تُعجِز من يريد الاستقصاء في بحثه حتى إن بعض الباحثين قد يترك البحث بسبب كثرة المعلومات! و هذا كان يحدث معي كثيرا إذا أردت البحث في أمرٍ أجد نفسي أجمع كثيرا من المراجع و أحمل كثيرا من الملفات في وقتٍ طويل ثم إذا انتهيت من ذلك قلتُ: ما أصعب أن أقرأ كل هذا !
و لعل من أقوى الأسباب التفسيرية لإدمان الانترنت بشكلٍ عام و مواقع التواصل بشكلٍ خاص هو الهروب من الواقع (psychological escape mechanism) هذا السبب الذي يجعل الشخص يلجأ إلى هذا العالم الافتراضي الذي يستطيع أن يتحكم فيه بنفسه، يسيطر عليه، يغير فيه كما أراد، يكون فيه كما كان يتمنى أن يكون!
و هنا كما يُعرف باختبار الإدمان للانترنت (Internet Addiction Test) و سأضع رابطه في المصادر و هو يعمل على سؤالك مجموعة من الأسئلة الذكية التي توضح لك مدى تعلقك بالانترنت.
و دعنا الآن نأخذ مثالين عظيمين في الانترنت و نبين بعض آثارهما على النفس و العقل و هما (مواقع التواصل الاجتماعي و جوجل محرك البحث الشهير)
مواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك و تويتر)
3
يقول د.بهاء الدين مزيد : ” و يبدو أن البشر طوال تاريخهم ظلوا يبحثون عن عالمٍ موازٍ يعبرون فيه عما لا يستطيعون أن يعبِّروا عنه في عالمهم الواقعي و يحققون من خلاله ما لا يستطيعون تحقيقه في حيواتهم المحدودة بقيود الزمان و المكان و القواعد و التنظيمات الاجتماعية……. و من البشر من يهرب إلى الأحلام و منهم من يهرب إلى الأوهام، ففي الأحلام عوالم افتراضية لا حصر لها و منها ما يتجسد في الواقع و منها ما يبقى حلما أو كابوسا و في الأوهام تهوين أو تهويل، و من الناس يهرب إلى عالم المسلسلات الدرامية و الأفلام السينمائية و فيها عوالم رحبة من الأحلام و الأوهام و الخرافات، و من المفكرين و الفلاسفة من نسج عالما طوباويا مثاليا”
فالمجتمع الافتراضي يعمل على استبدال المجتمع الواقعي في نفس الإنسان دون أن يشعر و تظهر مراحل تطوره للوصول لذلك في أمور:بدايةً من الشعور بالانتماء لهذا المجتمع ثم الشعور بالقدرة على التأثير فيه ثم تبادل الدعم من الآخرين ثم الحضور و التواجد (online & offline) ثم الثقة بين أفراده و نهايةً الخلفية المشتركة بين أفراد المجتمع في عالم الواقع تساعد على تقوية الأواصر في العالم الافتراضي.
و مما قد يفاجئك أن نتيجة تطور المجتمع الافتراضي هي الوصول إلى الانقطاع الجزئي عن العالم الواقعي بالتدريج إلى أن يصل إلى حدّ الانفصال التام كما هو حال الكثيرين و ليس البعض.
و اقرأ هذه الرسالة التي أخبر بها أحد الأزواج حيث يقول :
“و بينما أنا أتأمل في هذه الصداقة الجديدة و في هذا التعارف المستجد، و إذا بعرض صداقة آخر يلح على شاشتي،مرسَل هذه المرة من زوجتي، و الأغرب من ذلك أنها وجهت إلىّ ذاك العرض و هي جالسة في غرفة من البيت تلاصق الغرفة التي أجلس فيها، هكذا إذن ! زوجتي، هي الأخرى تتسائل إذا كنت أقبلها صديقة؟! ”
فإنها لم تستطع أن تتواصل مع زوجها إلا بالدخول إلى عالمه الافتراضي لعلها تجده فيه حبيبا لها.
و مثل هذه القصة أعرفها عمن كان يجالس خطيبته و عينه في هاتفه لا إليها حتى اضطرت إلى التواصل معه و مراسلته في عالمه (Chatting) لعلها هي أيضا تنال منه اهتماما.
جوجل : محرك البحث الأكثر شهرة
4
تقول (Siva vaidhyanathan) في كتابها (Googlization Of Everything) في فصل تَحْكُم فيه على علاقة جوجل بالذاكرة و المعلومات و القراءة :
“(( لقد نسيت أن أذكر أن أنسى))! كانت هذه كلمات أغنية ألفيس بريسلي التي قام بغنائها عام 1955، و قد عرفت ذلك لأني قمت بالبحث عن المعلومة بمساعدة جوجل فظهرت النتيجة في الويكيبيديا، فقمت بالضغط عليها، ليس من زمان بعيد كنت لأجعل القيام بمثل هذه الخطوة و ما كان على ساعتها إلا أن أقلب صفحات كتب تاريخ فن الموسيقى المتواجد على الرف خلف رأسي، و ربما لم يتعد أمر خمس دقائق حتى أجد المعلومة التي وجدتها في خمس ثوانٍ.
يبدو أنني لم أعد أحتاج إلى ذاكرتي كما كنت أحتاجها و ربما أيضا أعد أحتاج هذه الكتب، فإنني أستطيع أن أصل إلى كم هائل من المعلومات و أنا في حالتي هذه أبدو كأنني متصلة بكل شىء، و يبدو الأمر كما لو أنني لا أحتاج لأذكّر نفسي أني أحتاج لتذكر شىء، فكل المعلومات من الممكن الوصول إليها في شكل كلمة و صورة و صوت”
فالحقيقة أن المعلومة لكي تستقر في العقل فإنها تمر بأكثر من مرحلة أولها الذاكرة المؤقتة، بينما تكون المعلومة في هذا الجزء فإنها لابد أن يمر عليها وقت يسير حتى يقوم العقل بتحليلها و معرفة المكان المناسب لها في العقل ضمن ما يحويه من معلوماتٍ أخرى في الذاكرة الدائمة، و لكن ما يحدث مع (جوجل) أنه بينما يمر الوقت المفترض للمعلومة في الذاكرة المؤقتة ترى العين معلومة أخرى أو تسمع الأذن أحد أصوات استقبال رسالة أو بريد إلكتروني، ما يشتت انتباه العقل فيقوم بتلقي المعلومة الجديدة بينما يقوم بالتخلص من المعلومة القديمة.
أصبح العقل في حالة تصبح أشبه بحالة المجنون و يحب إعداد المشروبات الساخنة للاستمتاع بالطبقة السميكة التي تتكون على سطح الكوب، ثم يُلقي ما في الكوب متخلصا منه.
فأصبح الناس تواجه مشاكل في قراءة كتاب أو مقالة تتجاوز بضع سطور فقد صار العقل على نمط محرك البحث جوجل يريد سرعة المرور و التنقل بين الروابط و الصفحات، لا السكون و الجلوس للتعلم الهادىء.
و هذا يفسر لك لما مع كثرة و توافر هذا الكم العظيم من المعلومات لا نلاحظ هذه الزيادة أيضا في عدد العلماء و لصاحب مقالة “هل جوجل يجعلنا أغبياء” (Is Google making us stupid ?) نقلا عن أرسطو الذي ينقل كلاماً عن “آمون” الملك الفرعوني متحدثاًعن خطر الكتابة كوسيلة لحفظ المعلومات :
– “سيتوقفون عن استخدام ذاكرتهم، و تصبحون كثيري النسيان”
– “ستصبحون قادرين على استقبال قدر كبير من المعلومات بدون الاستعداد و التوجيه السليم”
– “سيظنون أنهم واسعو الاطلاع جدا، بينما هم في الغالب جهلة ”
– “سيكونون مليئين بوهم الحكمة بدلا من حقيقة الحكمة ”
كأنه يصف واقع الناس الآن !
حتى إنه كان يقول أحدهم إذا أغلقت جوجل كيف سنبحث عن سبب إغلاق جوجل ؟!
و أحب ختاما أن أضرب مثالا آخر مختصرا خارج نطاق الانترنت لأبين أن ما تكلمنا عنه لا يقتصر على الانترنت فقط بل إنه له وجودٌ بنسب متفاوتة في أغلب الاختراعات و التكنولوجيا الحديثة و ذلك لمن تأمل، و مثالنا هو عما كتبته ماجي ألدرسون في مقالها على (dailymail) بعنوان : جعلت ابنتي عبقرية .. فقط بإغلاق التلفاز.
Old TV Show
تقول في مقالها الرائع : “كانت طفلتي تعاني من نقص الانتباه! بمجرد أن أدركتُ طبيعة المشكلة، بدأت أشياء كثيرة تتكشف. في كل مرة كان أصدقاؤها يزورونها، كانوا ينهون بسعادة ألعابهم الحرفية، بينما كانت هي تتركهم لتمارس بعض الألعاب الرياضية أو لتعزف على البيانو على دفعات تستغرق ثلاث دقائق، أو لمجرد الدوران حول المنضدة. فسَّر ذلك أيضًا لماذا لم تكمل أبدًا قراءة كتاب حتى نهايته، ما أثار حزنًا جارفًا لدى أمها. كانت كل الأدلة تشير إلى تأثير الإفراط في مشاهدة التلفاز على نمو الأطفال، وهو ما أوضحته دراسة أعدتها الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال عام 2004، خَلُصَت إلى أن “مشاهدة التلفاز في سن مبكرة يرتبط بمشاكل في الانتباه عند بلوغ السابعة”، هذا بالضبط ما حدث لابنتي الحبيبة؛ حيث أدى الإفراط في مشاهدتها التلفاز وهي صغيرة إلى قلي دماغها.”
و تقول : “بالنسبة لآخرين، كانت مسموحًا للأولاد بالجلوس أمام الشاشة بعد الخامسة مساء، أو لساعة واحدة يوميًّا، يقضونها إما في مشاهدة التلفاز، أو ممارسة ألعاب الفيديو، أو أمام الكمبيوتر. بدأتُ في تخفيض عدد ساعات المشاهدة في عطلة عيد الميلاد. على مدى قرابة أربعة أسابيع، خفضنا مشاهدتها للتلفاز حتى ساعة ليلاً، بالإضافة إلى المشاهدة الجماعية لأقراض الفيديو المدمجة في بعض الأحيان.”
و تقول : “أصبحنا نطبخ معًا، ونلعب سويًّا بالألواح، ونركب الصور المقطعة، وأدمنت الأسرة كلها لعبة أوراق مبهرة تسمى “Rat-a-Tat Cat”. وتذكرت في واقع الأمر شتاء السبعينات، حين كانت الكهرباء تنقطع كل ليلة، وتجتمع العائلة بأكملها للعب الورق بجوار مصباح البرافين، وهي الأوقات التي أذكر أنها كانت من أسعد أوقات حياتي. حتى إنها بدأت تقرأ الكتب، وحدها، وحتى النهاية.
ثم كانت هناك أخبارًا مدهشة حقًّا. مرت فقط بضعة أسابيع بعد عيد الميلاد، ثم جاء مدرس الألعاب ليقول لي: “لا أعرف ما فعلتيه لـ”بيجي”، لكنها أصبحت فتاة مختلفة. كانت رائعة في كرة الشبكة اليوم، لا خداع في هذا الشأن إطلاقًا”. في اليوم التالي تلقيتُ تقريرًا مماثلاً من معلم الدراما، ثم شهدت يوم الجمعة الماضية الحدث الأكبر: طاردتني مدرستها حرفيًّا في ممر المدرسة، هاتفة: “أصبحت بيجي فتاة مختلفة. تنجز واجبها بشكل جيد. سأضعها في فريق القراءة. لا أعرف ما الذي فعلتيه، لكنه ينجح”.
“كل ما تطلبه الأمر كان ضغطة زر؛ لإيقاف التلفاز!”
في النهاية أحب أن أقول لقارىء هذا المقال أن الحياة المادية التي نعيشها اليوم قد فصلت الإنسان عن روحه، فصلته عن بواعث الجمال و المشاعر في الطبيعة، فصلته عن الكائنات الأخرى، فصلته عن واقعه بكثيرٍ من المُلهيات، فإن كنتُ طالبا منك شيئا :فهو أن تغلق أجهزتك الإلكترونية في يومٍ و تذهب تسير في الشارع تنظر إلى السماء و تشاهد طيورها أو تذهب إلى شاطىء البحر و تستمع إلى أمواجه أو تردد قصيدة غزلية تبعث روح الجمال فيك أو تقف في موضع ترى فيه شروق الشمس أو غروبها فتردد مسبحا أذكار الصباح و المساء متعبِّدا لله الجميل خالق هذا الجمال ثم انظر إلى أين ستسمو روحك ؟ و كيف ستعود بعد هذه الروحة مقبلا على بر والديك و زيارة أهلك و صلة رحمك والإحسان لجيرانك و مجالسة أصحابك و مساعدة العجائز في الطريق و الابتسام في وجوه الناس و إلقاء السلام ؟ إنها الروح عندما تسري في الجسد.
منقول

0 التعليقات:

إرسال تعليق

My Instagram